النضال الفلسطيني- من وعد بلفور إلى حرب غزة.. مئة عام من التحولات

المؤلف: أنور الهواري10.29.2025
النضال الفلسطيني- من وعد بلفور إلى حرب غزة.. مئة عام من التحولات

حرب غزة الكبرى التي اندلعت في خريف عام 2023، وامتدت حتى عام 2024، ليست إلا تتويجًا لمسيرة طويلة وحافلة بالتضحيات، تمتد لأكثر من قرن من الزمان، من النضال الفلسطيني المرير. هذه الشرارة التي انقدحت لم تنطفئ جذوتها منذ اللحظات الأولى لتطبيق وعد بلفور المشؤوم، تحت رعاية الانتداب البريطاني الغاشم. ولكن هذه الحرب، بالإضافة إلى كونها نهاية حقبة، تمثل أيضًا نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من الكفاح الفلسطيني، مرحلة تلوح في الأفق ملامحها، ولكن يبقى الكثير منها حبيسًا في علم الغيب، ينتظر الكشف عنه مع مرور الأيام والسنين.

والتساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما هي أبرز التحولات التي طرأت على المشهد النضالي بين اليوم والأمس، بين كفاحنا الراهن ونضالات الأجيال التي سبقته قبل مائة عام؟ الإجابة جلية وواضحة: قبل قرن من الزمان، كانت الحركة الصهيونية لا تزال في طور التكوين، وتقتصر جهودها على ثلاثة محاور رئيسية: الدعاية المكثفة، والهجرة المتزايدة، وتشكيل عصابات مسلحة استعدادًا للمواجهة. وكانت بريطانيا، الإمبراطورية التي بدأت شمسها في الأفول، هي الراعي الرسمي لهذه الحركة.

رعاية كاملة

في المقابل، كان العرب، أو جلهم إن لم يكن كلهم، رازحين تحت نير الاحتلال الأجنبي، محرومين من السيادة الكاملة على قراراتهم، على مستوى الحكومات. لكن على الرغم من ذلك، كانت الشعوب العربية بأكملها ترفض بشدة الفكرة الصهيونية. أما اليوم، فقد تبدل الحال جذريًا، وأصبحت إسرائيل قوة إقليمية ذات جاذبية كبيرة، يسعى العديد من الحكام العرب للتقرب إليها والتودد إليها، وذلك تحت رعاية إمبراطورية عسكرية ضخمة، تمنحها الدعم اللوجستي اللازم لسحق أي مقاومة فلسطينية. قبل مائة عام، لم يكن الدور الأميركي بهذه القوة والنفوذ؛ اقتصر دورها آنذاك على تقديم المشورة في صياغة وعد بلفور، ثم المساهمة في تمويل تدفق المهاجرين اليهود، وأخيرًا المساعدة في انتصار العصابات الصهيونية على العرب في حرب عام 1948.

لكن هذا الدعم المطلق من أميركا لإسرائيل بلغ أوجه في مناسبتين بارزتين: أولاً، في حرب أكتوبر عام 1973 على الجبهتين السورية والمصرية. وثانيًا، في حرب الإبادة الجماعية ضد غزة في عام 2023. في كلتا الحالتين، كان العرب في مواجهة مباشرة مع أميركا. وبين هاتين الحربين، مرت خمسون عامًا شهدت تحول أميركا من جمهورية دستورية إلى إمبراطورية عسكرية عالمية، لا تلتزم بالقانون الدولي. وهو نفس الحق الذي منحته لإسرائيل، لتصبح قوة عسكرية إقليمية فوق القانون، وكلتاهما تشنان الحروب على العرب دون حسيب أو رقيب، ودون الالتفات إلى أي قانون دولي، أو عرف إنساني، أو حتى مبدأ أخلاقي بسيط.

خلال هذه العقود الخمسة، شهد وضع العرب تدهورًا ملحوظًا، وسقطت آخر معاقل المناعة الوطنية والروح الاستقلالية، وانضوت تحت المظلة الأميركية، تمامًا كما كان عرب الجزيرة العربية يخضعون لسلطان الفرس، وعرب الشام تحت سلطة الروم. فقد العرب في الخمسين عامًا الأخيرة كل مصادر الاستقلال التي حصنهم بها الإسلام، ثم المصادر الأخرى التي استمدوها من الأفكار والحركات والنهضات القومية والوطنية الحديثة في فترات مقاومة الاستعمار الأوروبي. لهذا السبب، كان لدى جميع العرب شرف المشاركة في حرب أكتوبر عام 1973، ولكن بعد خمسين عامًا وصلوا إلى النقيض تمامًا في مواقفهم إزاء حرب غزة في أكتوبر 2023.

العمل على ثلاثة محاور

هذا التحول الجذري الذي حدث في العقود الخمسة الأخيرة له جذور عميقة في العقود الخمسة التي سبقتها، أي منذ اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي وحتى السبعينيات منه، من ثورة البراق عام 1929 إلى توقيع أول اتفاقية سلام عربي مع إسرائيل عام 1979. فالتاريخ وحدة متكاملة، مهما اتسعت آفاقه ومهما تباعدت أراضيه، فإن الأحداث تتوالى وتتفاعل مع بعضها البعض.

في عشرينيات القرن الماضي، كانت الحركة الصهيونية تعمل وفق ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، الاستيلاء على الأراضي وتهجير السكان الأصليين، الفلسطينيين. ثانيًا، زرع بذور الفتنة والانقسام بين الفلسطينيين، من خلال دعم فريقي آل الحسيني وآل النشاشيبي. ثالثًا، حصر الصراع مع الفلسطينيين وحدهم، والسعي لعقد اتفاقيات سلام مع بقية الدول العربية. هذه المحاور الثلاثة لا تزال تمثل جوهر الخطة الصهيونية حتى يومنا هذا.

يحكي الدكتور محمد حسين هيكل في الجزء الثالث من مذكراته أنه عندما كان يترأس تحرير صحيفتي "السياسة" و "السياسة الأسبوعية"، جاءه كاتب يهودي وطلب منه صراحة أن تتيح الصحيفتان صفحاتهما لتأييد الحركة الصهيونية، مقابل تمويل مادي سخي. فرد عليه الدكتور هيكل بكل حسم بأنه من المستحيل أن يجد صحيفة مصرية واحدة تؤازر الصهيونية ضد العرب.

مواقف عربية سلبية

ثم يشرح لنا بإسهاب الخطوط العريضة لمواقف العرب آنذاك، فيقول:

1- كانت البلاد العربية والإسلامية تتعاطف بشدة مع عرب فلسطين وتناصر قضيتهم العادلة.

2- لكن موقف الحكومات العربية والإسلامية كان سلبيًا ومترددًا للغاية.

3- كان ساسة مصر، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، يرون في هذا الموقف السلبي حكمة بالغة.

4- لم تكن هذه الحكومات، الخاضعة للنفوذ البريطاني، قادرة على القيام بأي شيء يذكر لمساعدة الفلسطينيين.

5 – لهذا السبب، كانت جهود أبناء فلسطين – ويقصد هنا الثورة الفلسطينية في عامي 1929 و 1936 – جهودًا قومية خالصة ونبيلة. كانت ثورتهم ضد الهجرة اليهودية وبيع الأراضي لليهود عنيفة للغاية، ولم يخفف من حدتها الانقسام الذي حدث بين الزعماء الفلسطينيين، بل إن هذا الانقسام أدى إلى مزيد من العنف في الثورة الفلسطينية عام 1936.

الخلاصة: كانت الشعوب متعاطفة ومؤيدة، وكانت الحكومات عاجزة ومتقاعسة، وكان الشعب الفلسطيني يتحمل أعباء قضيته بمفرده. هكذا كانت الملامح الرئيسية للوضع قبل مائة عام، وهي نفسها – تمامًا – الملامح المهيمنة على المشهد في اللحظة الراهنة. فما كان قبل مائة عام هو ما نعيشه الآن.

والسؤال الذي يطرح نفسه: إذن ما الذي تغير؟ الجواب: التغيير الجوهري يكمن في أنه في منتصف المائة عام، تحديدًا في العقود الثلاثة الممتدة من الأربعينيات وحتى الستينيات، بلغ الفكر العربي ذروته في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وكانت تلك مرحلة استثنائية بكل المقاييس، تختلف عما سبقها وعما تلاها. أما عن أسباب تلاشي هذه الطفرة، فهذا سيكون موضوع مقالنا يوم الخميس القادم، بمشيئة الله تعالى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة